تعلم اللغة الألمانية : رؤى وتأملات طبيب

 

مرحبًا! بعد انقطاع لمدة أكثر من شهر بقليل للتركيز على أهم امتحان قمت به في حياتي حتى الان، اود مشاركة رحلتي معكم، كيف وصلت الى هنا، الدروس التي تعلمتها في الطريق.ٍ

 

ستكون هذه قصتي الشخصية وارجو أن تجدو العبرة منها أو إذا كنت من الأطباء الذين يفكرون في القدوم الى ألمانيا قد تكون هذه تساعدك المقالة لاتخاذ قرار أفضل. 

 

 لذلك، خذوا مشروبكم المفضل، اجلسوا بشكل مريح، ولنتحدث عن العاصفة التي كانت آخر عامين في حياتي.

 

البداية في 2020 

تخيل ذلك: انتشار فيروس كوفيد-19، محبوس في المنزل وأشعر بالملل. في تلك الفترة بدأت في دبلوم طب العيون ولكن مع بداية الحظر، توقف الدبلوم مثل كل شئ في تلك الفترة. كان لدي كل الوقت في البيت. 

 

على غرار المعروف، الملل ليس شئ سلبي أساساً. يوجد ارتباط وثيق بين الملل و شبكة الوضع الافتراضي (دي إم إن). تنشط هذه الشبكة عند شروذ الذهن وعدم التركيز على شئ معين في العالم الخارجي إنما على الأفكار و التأمل الداخلي.

 

ساعدتني هذه الفترة على تقدير الخيارات المتاحة أمامي، ماذا اريد فعله تحديدا بحياتي المهنية؟ أين سأكون بعد خمس أو عشر سنوات من الان اذا استمريت على طريقي هذه.

 

وجدت نفسي في مفترق طرق. هل يجب أن ألتزم بوظيفتي غير الطبية ذات الأجر العالي ولكن المملة، أم أن أتبع شغفي بالنمو المهني في المجال الطبي الذي طالما أحببت؟

 

كان هناك شيء واحد واضح تمامًا وهو بأني لم أُرد العيش هنا. لم تكن فكرة العمل في مستشفيات ليبيا تتفق معي. سببان رئيسيان لهذا: 

 

  • الحصول على مرتب يشكل تحديًا كبيرًا. لماذا؟ قد لا يوجد سبب واحد لهذا ولكن من أبرز المشاكل لدينا هي الفساد الادراي. لم يكن الأمر كذلك منذ كم سنة ولكن مع تخريج دفعتي، أصبح الحصول على عقد عمل معركة خاسرة لم اُرد خوضها.

 

  • والتخصص في طب العيون يحتاج مارد سحري أو شي اقوى حتى. القسم اغلق ابوابه على الأطباء الجدد ومن دون فيتامين “و” انسى الفكرة.

 

بعد بعض التفكير العميق، ضربتني الفكرة – كنت بحاجة لمتابعة شغفي كطبيب. هنا جاء القرار بالانطلاق في رحلة مثيرة نحو المجهول.

 

ألمانيا تنادي

لحسن الحظ أو لسوئه في حالتي (Analysis Paralysis), يوجد العديد من الخيارات والطرق للأطباء للعمل في الدول المتقدمة. أمريكا وبريطانيا كانتا على رأس القائمة والطريق واضح جداً لهما كما يوجد العديد من المصادر على الانترنت والكثير من الكتب. 

 

أتحدث الإنجليزية بطلاقة، فاللغة لم تكن عائق في هذه الحالة. قمت بشراء الكتب المطلوبة وبدأت بالدراسة تجهيزاً للامتحان. وجدت صعوبة في الالتزام بالدراسة في ظل ضغط العمل والإرهاق الذي أشعر به بعد نهاية دوام 8 ساعات. وقت تغيير االخُطَّة.

 

فكرة ألمانيا ظهرت بشكل كبير  في تلك الفترة – خيار جذاب ينبض بالإمكانيات. بدأت بالبحث لكن لم يكن هناك العديد من المعلومات على الانترنت خصوصا للأطباء الليبيين. بدأت في تعلم اللغة بنفسي مسلحاً بقلة المعلومات والصبر لرؤية إذا ما كانت تستحق العناء والوقت الذي سأستثمره فيها.

 

بحسب FSI الأميركية وبخبرة 76 عاماً في تعليم اللغات، تعتبر الألمانية في الدرجة الثانية من أربع من ناحية الصعوبة لمتحدثي اللغة الانجليزية وتحتاج لتعلم اللغة الألمانية 900 ساعة أو 36 أسبوع. العربية في أخر درجة وتحتاج الى 2200 ساعة إذا كُنت تتساءل! 

 

وقعت في حبها بشكل سريع ولكن تقدمي كان بطيئاً بطريقة مزعجة و أردت تسريع الخطى. بسبب الجائحة، تحولت الكورسات الى أون لاين في جميع مدراس اللغة الألمانية. 

 

وبالفعل، اشتركت في إحداها لمدة 8 أشهر حتى مستوى B2 وكان الجو ممتعاً رغم صعوبة وطول الروتين.

 

المحاولة الأولى

جمعت الأوراق المطلوبة بحذر, حجزت الموعد و قمت بالسفر للسفارة الالمانية في تونس!

 

سلمت أوراقي و أمري الى الله وطُلب مني الانتظار 3 أشهر حتى يتم إنهاء الإجراء.

 

داخل السفارة، تعرفت على طبيب أسنان ليبي اسمه عوض. كان هناك ليتم بعض إجراءات لصديق له و سألني عما إذا كنت اعرف أي طبيب ليبي في ألمانيا؟ كانت اجابتي بـ لا وإذا بنظرات الاستغراب تظهر على وجه عوض. 

 

كنت الوحيد بين اصدقائي الذي يفكر بتعلم الألمانية ذلك الوقت. المهم.

 

قال عوض “نعرف دكتور ليبي نجح امتحاناته الفترة اللي فاتت، لو تحب نقدر نعرفك عليه؟”

 

قلت له : يا ريت! 

 

ذهب بعد ذلك كل منا في طريقه و في بلدي، اتصل بي رقم ألماني على الواتساب. الطبيب اسمه محمد واكبر مني بثلاث سنوات. قصير القامة و لاعب قوى محترف. كان دائماً مستعد للمساعدة رغم انشغاله بالعمل كطبيب تخدير وأُكن له الكثير التقدير والاحترام. 

 

أول مكالمة استمرت أكثر من ساعة واتضح فيها بأني لم أكن افقه الكثير على غرار ما كُنت اعتقد. اتضح بأن هناك بعض المستندات المهمة التي لم يكن لدي علم بوجودها ولم أقدمها مع باقي الاوراق. ممتاز المزيد من التعطيل و الانتظار.

 

كما نصحني بتغيير الولاية التي اخترت  والقدوم للولاية التي يقطن هو فيها. السفر لبلاد غريبة من دون معارف او اتصالات كان قرار غبي من طرفي. ماذا الآن؟

 

 يجب على الغاء طلبي الاول عند السفارة والسفر و تسليم الأوراق كاملة مرة اخرى. ساعدني محمد للحصول على الورقة المطلوبة وقمت بالتقديم على الفيزا مرة اخرى.

 

المحاولة الثانية

بدل الانتظار 3 اشهر، انتظرت 6 اشهر بسبب سوء التنسيق والتسرع من جهتي.

 

قلت لنفسي  “كل توخيرة فيها خيرة” مثل ليبي.

 

حتى لا أضيع وقت أكثر منتظراً رد السفارة، قررت التسجيل في اخر مستوى للغة C1 والذي استمر 3 أشهر. لقد كان مملاً هذه المرة ولكن السبب كان المُدرِسة وليست اللغة نفسها.

 

 جاء رد السفارة مبكراً هذه المرة وحصلت على الفيزا! 

 

قمت ببيع سيارتي البشعة بسرعة، استقلت من العمل وسلمت الأجهزة، أرز بالخلطة كغذاء الوداع للأحباب وأحضان دافئة للاهل وسافرت إلى مستقبل مجهول مغلقاً هذا الفصل من حياتي .

 

مواجهة الحنين في أرض أجنبية

كانت الستة أشهر الأولى رحلة من المشاعر المتقلبة. ضرب الحنين إلى الوطن بقوة، ومهارات التحدث كانت أقل من المتوقع. كانت والدتي الحبيبة دائما تقول “الغُربَة صعبة” وكنت اضحك من هذا بكل سذاجة الى أن خضت التجربة بنفسي.

 

تحديات غير متوقعة

كانت الخطة هي التسجيل في دورة تحضيرية للامتحان بمجرد وصولي. المطلوب فقط شهادة إثبات لغة B2 أو هذا ما كُنت اعتقده على الأقل. خلال الشهر الأول و بفضل الله نجحت في هذا الامتحان، عقبة أخرى تم التخلص منها.

 

ذهبت لتلك المدرسة حمالاً ما يريدون من اثباتات و اوراق للتسجيل في تلك الدورة التي تكلف أكثر من 4000 يورو. الجميل في الموضوع بأن الحكومة الالمانية تقوم بدفع الاقساط المطلوبة للأطباء الأجانب نظراً لحاجتهم لهم.

 

أفاجئ بأن نوع الفيزا لدي لا تنطبق عليه شروط الدعم! حلو، ماذا الان؟ قلت لنفسي. بعد استشارة الذين خاضوا التجربة من قبلي و مليئاً بالإحباط قررت الدراسة بمفردي. 

 

بالصدفة و في خلال تلك الأشهر اكتشفت بأنه يمكنني تغيير نوع الفيزا و قمت بذلك بالفعل. اذا كنت تريد معرفة شئ واحد عن المانيا فهو بطء هذا النوع من المعاملات حيث تستغرق أشهر.

 

سجلت في دورة في مدرسة أخرى بعد فشل أول محاولة قبل حصولي على الفيزا الجديدة والحمد لله أني فعلت. خطط الله سبحانه وتعالى أفضل مما ندرك بقدرات تفكيرنا المحدودة وقصر نظرنا وستفهم قصدي اذا استمريت بالقراءة.

 

من زرع حصد

من خلال الكورس تحسن مستواي بشكل كبير في وقت قصير لكن ليس لاني عبقري، بل لاني درست جزء كبير بمفردي وحفظت كل المصطلحات الطبية الجديدة حتى قبل بداية الدورة حتى. 

 

كما ازدادت ثقتي بنفسي بشكل كبير بعد سماع بعض الإطراءات من مُدرْستي اللغة.

 

تمكنت ايضاً في تلك الفترة من الحصول على “عمل” لدى مستشفى كبير في قسمين مختلفين شكراً لله و صديقي محمد. سيطلق عليك Hospitant و تعني حرفياً الضيف حيث كنت أساعد في الأمور البسيطة، ملاصق مثل الظل و اراقب طريقة عملهم من قرب. الهدف كان : 

 

  • تحسين اللغة.

  • التعرف عن قرب على نظام الصحة الألماني.

  • تكوين بعض المعارف الجديدة.

 

تجربتي في هذه المستشفى كانت ايجابية الى حد كبير. الشهر الاول كان في قسم التخدير. لم يكن الاختصاص المفضل لدي ومع هذا لم أُرد تضييع الفرصة. لقد اذهلتني كمية العمليات الجراحية التي تقام في اليوم الواحد حيث يعملون كالنمل بلا توقف. 

 

أتذكر جيداً عندما كنت اُشاهد في الشاشة احدى العمليات داخل القفص الصدري لمريض في السبعينات من عمره يعاني سرطان الرئة عفانا الله واياكم. كان يجب ازالة الكتلة الخبيثة وأثناء العملية الجراح أخطئ و ضرب إحدى الشرايين الكبيرة.

 

بدأ نزيف خطير في الحصول وعلى شاشة طبيبة التخدير بدأت العلامات الحيوية بالهبوط بسرعة. الغريب في الأمر كان الآتي، لقد شعرت بالتوتر كمتفرج غير مسؤول عن المريض والجراح المسؤول استمر في العمل بكل هدوء!

 

المريض كان سيموت في دقائق ولكن هذا لم يحرك شعرة فيهم بل عملو بكل تركيز على ايقاف النزيف و استمرت العملية كعملية صدر مفتوح. المريض خرج من حفرة موت محتمة.

 

خلال هذان الشهران داخل جدران تلك المستشفى المعقمة أدركت بأني على الطريق الصحيح حيث شعرت ولأول مرة من فترة بأني طبيب.

 

انتظار الفرج

اكبر تحدي واجهته هو انتظار الرد من نقابة الأطباء بموعد الامتحان! ألم أقل لك بأنهم بطيئين.

 

انتظرت 10 أشهر حتى حصولي على فاتورة الامتحان في حين ان اغلب زملائي حصلوا على رد خلال 3 أشهر .

 

بدأت اشعر بالاحباط والاكتئاب في كل مرة افتح فيها البرنامج البنكي الخاص بي. اضطررت للعمل لدعم نفسي مادياً. لا استطيع العمل أكثر من 10 ساعات في الأسبوع (حوالي 500 يورو شهرياً) نظراً لنوع الفيزا الخاص بي.

 

بدأ البحث الذي استمر فترة وقد وجدت شركة توظيف تعمل كوسيط بين الشركات والعاملين حيث يقومون بإرسالك حسب حاجة الشركة المستهدفة. عملت في كافتيريا جامعة الموسيقى، غسلت الصحون، قدمت الطعام للطلبة، فرغت الشاحنات وغيرها.

 

 الكل مر بهذا في بلاد الغُربة ولست استثناءاً

 

بسبب طبيعة العمل، لم استطع الوصول لعدد الساعات القصوى رغم استعدادي و طلبي المُلح من الشركة حيث وصل أعلى مرتب 300 يورو فقط.

 

بعد عام

مرت سنة منذ قدومي لألمانيا ولم أستطع القيام بالامتحان رغم استعدادي له شكراً للنقابة. حاولت الاتصال و بعثت الكثير من البريدات الإلكترونية ولكن لا مجيب لمن تنادي.

 

نعم، ذهبت إليهم ايضاً ولكن هناك ورقة حمراء ملعونة على الباب مكتوب عليها “الدخول ممنوع بسبب جائحة كوفيد. تواصل معنا عن طريق البريد والهاتف“.

 

 عذر قبيح ونحن في نهاية 2022 و الحياة رجعت لطبيعتها!

 

هذا كله جعلني أتساءل ماذا يفعل الموظفون هناك؟ هل يعملون حقاً أو يشربون القهوة ويتحدثون في أمور لا معنى لها؟

 

اقترح صديقي محمد ارسال ايميل تشرح فيه وضعك الحرج. في محاولة يائسة مني كتبت بريد إلكتروني طويل عريض لنقابة الأطباء، مكتب الهجرة وبعض الجهات الرسمية الأخرى معبراً فيه عن استيائي الشديد وكيف أن أحلامي تحطمت قبل أن تبدأ حتى بعد أن استمرث وقتي و كل ما أملك.

 

البريد الالكتروني سقط على اذان طرشاء الا مُديرة المدرسة التي درستُ فيها الدورة التحضيرية. 

 

إيفا، امرأة أربعينية شقراء و كانت دائما طيبة في التعامل و مهتمة بالطلبة بشكل كبير. ألم أقل بأن الله لديه أفضل الخطط!

 

طلبت مني القيام بتخويل قانوني بخصوص هذا الأمر و قامت بالتحدث شخصياً مع النقابة بأسمي. في خلال اسبوع تقريباً وبعد مئات المكالمات و البريدات الإلكترونية، تمكنت إيفا من الوصول لهم ومعرفة ما المشكلة! 

 

استيقظت على رسالة واتساب تقول “لدي مفاجأة لك” من إيفا خرجت مسرعاً من غير فطور وركبت القطار لوسط المدينة في نفس اللحظة وإذا هي تحمل فاتورة الامتحان في يدها! لقد كانت أسعد 450 يورو صرفتها في حياتي! 

 

قد أكون أول شخص في العالم يحتفل بأنه سيدخل على امتحان!

 

وقت الجد

بعد تحويل المبلغ المطلوب حصلت على موعد امتحان بعد ثلاث أشهر من دفع الفاتورة، تحديدا في شهر فبراير 2023. استقلت من العمل بالهاتف للتركيز على الدراسة شهرين قبل الامتحان. 

 

بدأت بالذهاب يومياً للمكتبة بعد تمارين الصباح والغرق عالم الطب باللغة الألمانية. كما بحثت عن زملاء للتدرب على الامتحان معهم.

 

اخرج ارجوك

بسبب حرب روسيا وأوكرانيا، ارتفع سعر الوقود والغاز بشكل يؤرق جيوب الناس مما أدى إلى زيادة الإيجارات. تبعاً لهذا طلبت السيدة التركية صاحبة المنزل دفع 150 يورو زيادة على الايجار الاساسي لتغطية تكاليف التدفئة في برد ألمانيا القارس.

 

انا ومن يسكن معي ذلك الوقت لم نملك الكثير من المال لتغطية هذه الزيادة. بعد مناقشات عديدة معها، قالت يمكنكم البقاء شهرين حتى تجدو شقة اخرى للايجار دون دفع أي زيادة.

 

لكن للأسف كان مجرد كلام فقط. بمجرد اننا قمنا بتحويل ايجار الشهر القادم، أتت لشقتنا وعلامات الأسف على وجهها وقالت بأن هذا اخر شهر لكم وعليكم الخروج من المنزل! 

 

البحث عن شقق هنا صعب جداً ما لم تكن فتاة شقراء وليس لدي الوقت أساسا للبحث حيث ان الامتحان كان في الشهر التالي.

 

تحدثت معها مطولا عن الأمر وتفهمت وضعي حيث قالت بأنني يمكنني البقاء حتى موعد الامتحان! هذه السيدة الكريمة جعلتني اعيش 18 يوم دون دفع فلس واحد.

 

يكرم او يهان

اليوم الموعود الذي اجتهدت من أجله قد جاء أخيراً. بمعنويات عالية و تجهيزات الطالب المجتهد ذهبت لمركز النقابة حيث يقام الامتحان. الحظ لم يكن تماماً في جانبي ذلك اليوم.

 

المطلوب في هذا الامتحان هو اخذ القصة المرضية وكتابة تقرير طبي كامل عن الحالة ومناقشته مع الأطباء، المريض نفسه أو أهله.  حالتي كانت طفلة تعاني من التعب، ضعف التركيز في المدرسة وكثرة الذهاب للحمام. أعراض السكري من النوع الأول الشائعة.

 

هذا يعني بأنه علي أخذ القصة المرضية من أمها. طريقة الاسئلة تختلف هنا لأنها ليست مباشرة وإنما تتحدث عن شخص ثالث وفرص وقوع الأخطاء هنا أعلى لصعوبة الجمل.

 

تعتبر هذه من أصعب الحالات التي يمكن أن تُمتحن فيها ولكن لحسن الحظ تمكنت من أخذ القصة كاملة من أم المريضة وكتبت التقرير فقط لاني كنت جاهز لمثل هذه الحالات. 

 

بعد مناقشة الحالة و مرور عدة ساعات بلمح البصر،  طُلب مني الانتظار خارج الغرفة لبعض الوقت. مرت خمس دقائق كانت أشبه بخمس ساعات وانا انظر للحائط أمامي في الغرفة الانتظار المطلية باللون الأبيض.

 

 جاءت بعدها السيدة وطلبت مني الرجوع و الجلوس على نفس الكرسي وإذا بورقة امامي طُلب مني قراءتها. 

 

لقد شعرت بأن ادائي كان جيداً ولم ارتبك اثناء الامتحان ولكن فكرة النجاح أو الرسوب لم تخطر ببالي نهائيا. 

 

كنت في أكمل هدوئي واعلم بأني قدمت أفضل ما أملك ذلك الوقت. هذا فقط ما كان يدور في دماغي.

 

المكتوب على الورقة كان بأني نجحت في الامتحان وهذه الشهادة هي إثبات على هذا.

 

لم اصدق المكتوب في البداية وبدأت النظر في وجوه اللجنة وعلى وجهي علامات التفاجئ ظناً مني بأنها نكتة منهم وان هناك كاميرا ما هنا. 

 

خرجت من فمي هذه الكلمات “هل انتم متأكدون؟” باللغة الألمانية طبعاً! 

 

لقد قالو “نعم، لقد كان مستواك جيد وكافي للنجاح. لا تأتي إلى هنا مجدداً!”

 

شكرت اللجنة وخرجت مسرعاً قبل أن يغيروا رأيهم

 

استراحة محارب

كان الاتفاق هو الخروج من الشقة بعد الامتحان وهذا تحديداً ما فعلت. بدل البحث عن شقة جديدة قررت العودة للوطن و قضاء بعض الوقت هناك بين الأهل والأصحاب. كانت خطوة ضرورية، خطوة تحمل وعوداً بالراحة والهدوء بعد فترة مليئة بالتحديات في ألمانيا.

 

جمعت أغراضي بعناية، اشتريت الهدايا كتعبير عن حبي وامتناني، وودَّعت أصدقائي الجدد في المانيا بقلوب ممتلئة بالذكريات الجميلة و وعد بالرجوع قريباً.

 

لم تكن رحلة العودة خالية من المشاكل ولكن ستكون هذه قصة لوقت آخر.

 

بين الاهل والكتب

تغيرت خطتي من جديد. بدلًا من العودة بعد نهاية شهر رمضان الكريم، قررت تمديد المدة والتحضير للامتحان القادم في ليبيا.

 

 يُعرف هذا الامتحان باسم “امتحان المعرفة الطبية”، ويعتبر المرحلة الثانية والأخيرة لنيل الاعتراف وبداية مرحلة جديدة في رحلتي في مجال الطب دون قيود في بلاد السُجق.

 

يوجد خياران بعد النجاح من الامتحان الاول او مايعرف ايضا بامتحان اللغة الطبية، وهما كالاتي:

 

  • العمل مباشرة! هذا قد يبدو خياراً جيداً للوهلة الاولى ولكن… هناك مشكلتان في رأي الشخصي.

 

فترة العمل محدودة جداً وتكون سنتين كحد اقصى. خلالهما يجب عليك النجاح في امتحان المعرفة الطبية. النقطة السلبية الاخرى ليس كل التخصصات مفتوحة لك ولعل الأهم من هذا كله، فترة العمل هذه ليست محسوبة للوصول لدرجة اخصائي. لا داعي للشرح، إذا كنت طبيب، ستفهم قصدي.

 

  • الخيار الثاني والذي قمت به، كان الدراسة والدخول على الامتحان الثاني مباشرة دون إضاعة الوقت. عيوب هذا الخيار هو أنه يحتاج لجيب أعمق كي تُبقي رأسك فوق الماء. تعبيران من اللغة الألمانية.

 

بدأت بالدراسة بشكل خفيف تمهيداً للتحدي القادم بيمنا لم أحرم نفسي من الاستمتاع بوقتي هناك خصوصاً أني على علم بأن رحلة العودة القادمة لليبيا لن تكون في القريب في العاجل.

 

التحضير والتوتر

بعد دفع آخر مبلغ متبقي في حسابي للامتحان التالي، حصلت على موعد مناسب في نهاية شهر نوفمبر. قررت العودة لألمانيا في شهر أُغسطس حتى اتمكن من استثمار الوقت المتبقي للدراسة بشكل مكثف. 

 

من الأشياء التي أحببت في ألمانيا بأنه يوجد العديد من المكتبات التي يمكنك قضاء فيها يومك والاستمتاع بانتاجية عالية دون اي مصادر تشتيت للانتباه. 

 

في الحقيقة لم أكره تلك الفترة وكان التحضير ممتعاً أو ما جعله أقل مملاً هو الحفاظ على نمط حياة صحي لمحاربة التوتر والقلق وإضافة نكهة مميزة لليوم.

 

ليس هذا فقط، الرياضة، النوم و الغذاء الصحي المتوازن لا تقل أهمية عن الدراسة إذا أردت أن تقدم أفضل أداء ممكن بشكل يومي.

 

رغم التحضير المكثف و المتوازن في نفس الوقت، وقعت في فخ التوتر في الأسبوع الأخير قبل الامتحان! يهرب النوم كل يوم في الساعة الثالثة مساءاً ويبدأ دماغي بشكل اتوماتيكي بمراجعة ما تعلمت.

 

كطبيب لست بغريب عن الامتحانات الصعبة ولكن هذه كانت اول مرة يحصل لي ما حصل.

 

استخدمت اليوغا نيدرا و التنهد الفسيولوجي (اضغط على الرابط لمعرفة المزيد) للتحكم في التوتر و وضعه تحت السيطرة قدر الإمكان. كما استمررت في المحافظة على العادات الصحية الاخرى و الراحة وقت الحاجة. 

 

بداية الطريق وليس نهايتها

اليوم المنتظر قد جاء! استيقظت بعد نومة شبه هنيئة، جهزت نفسي وصليت الصبح و فطرت بالقهوة و زبادي الفراولة عالي البروتين مع موزة طازجة.

 

توكلت على الله وذهبت وسط المطر الخفيف وأجواء ألمانيا الكئيبة و المغيمة واستقلت القطار لمركز النقابة حيث يقام الامتحان الموعود.

 

استمعت لبودكاست Mind Pump في الطريق التي دامت الـ 30 دقيقة فقط لأنها كانت التالية على جهازي. وصلت واذا بأثنان من الزملاء قد وصلا قبلي. أحداهما كان جالساً منحني الظهر و التوتر مكتوب بحروف عريضة على وجه.

 

سلمت عليهما و حاولت فتح أبواب الحديث و رفع المعنويات. جاءت الموظفة وقالت بأن أحد الأطباء سيتأخر قليلاً. أخرج الزميل كتابه وبدأ بالمراجعة فوراً!

 

 تلك الفترة كانت درجات الحرارة تحت الصفر والثلج يتساقط على مدار الساعة. الطرق والسكك مجمدة والكل يمشي بحذر خوفاً من يقع ويكسر عظمة الحوض.

 

بعدما وصل الطبيب الثالث بدأ الامتحان فوراً حيث طُلب منا الدخول لغرفة كبيرة وتم شرح طريقة الامتحان بشكل مفصل.

 

ثم قال الطبيب الممتحن “هذه أول مرة يجرى الامتحان في هذه الغرفة. انظرو وراءكم!”

 

إذا بألواح زيتية لمؤسسي نقابة الأطباء في هانوفر ينظرون إلينا متوقعين أن نقدم أفضل ما لدينا.

 

كل واحد منا لديه مريض عليه أن يأخذ منه القصة المرضية بالكامل والقيام بفحص جسدي دقيق في حضور الطبيب الممتحن.

 

السيدة لايمان كانت في الستينات من عمرها وتلعب دور مريضة  تعاني من ألم ساقها اليسرى بعد المشي لمسافة معينة. لائحة التشخيصات الممكنة ظهرت في رأسي لهذا العرض الشائع و استكملت الحديث معها في أسرع وقت ممكن نظراً لضيقه.

 

قمت بالفحص الجسدي من الرأس حتى أصابع قدميها وشرح ماذا افعل وأرى  حتى يعرف المريض والطبيب ما أفعل.

 

انتهى الوقت، لنذهب للغرفة الأخرى” قال الطبيب. شكرت الممثلة على حسن تعاونها وخرجت وراءه. كنا آخر من وصل للغرفة المجاورة. طُلب مني البدء وتقديم الحالة للطبيب بشكل ملخص.

 

هكذا فعلت و بدأ النقاش مع الطبيب عن المرض المعروف بانسداد الشرايين الطرفية. الممتحن كان كبير العمر و تظهر عليه سنوات الخبرة من نبرة صوته الهادئة واسئلته الدقيقة. كان النقاش واضحاً ولم يكن هناك أي أسئلة مستحيلة كما كُنت أتوقع.

 

دون الاطالة اكثر من هذا، تم استجوابي من الطبيبان التاليان و كانت التجربة إيجابية حيث امتلكني الهدوء والتركيز الشديدين. بعد نهاية الامتحان تم طردنا للخارج حيث قامت لجنة الأطباء بمناقشة أداءنا و رؤية إذا ما كنا نستحق النجاح بكل موضوعية.

 

كان هناك ثلاث اطباء اخرين في غرفة الانتظار. يبدو عليهم بأنهم أصغر مني سناً و قد سألني أحدهم “هل نحتاج الى المعطف الأبيض؟” بما انني كنت أرتديه كما طٌلب منا.

 

قلت له “نعم، ستحتاج إليه” 

استغرب من كلامي و بعد محادثة قصيرة اتضح بأنهم سيقومون بالامتحان الاول “اللغة الطبية”. تمنيت لهم التوفيق وأنا أتذكر بأني كنت مكانهم فقط منذ كم شهر. 

  

مرت ثلاث دقائق سريعة، و طُلب منا الرجوع لغرفة الألواح الزيتية وإذا بالطبيب يبارك لنا نجحانا في الامتحان!

 

قال”بأن المستوى بشكل عام جيد ولكن يوجد عندكم نقاط ضعف. يجب أن عليكم تدرسو اكثر من هذا وأنتم في بداية الطريق”

 

شكرنا اللجنة و خرجنا نفكر في ما قال. شخصياً، أرى بأن تعليقه كان مشجعاً وأوقد في نار الحماس في لبذل مجهود أكبر في الامتحانات القادمة.

 

أود أن أنهي المقالة ببعض الدروس التي تعلمت كي اُذكر نفسي اولاً وقد تنفع بعضكم ثانياً.

   

ماذا تعلمت؟ 

  1. بعض الملل مهم لاكتشاف الذات ومراجعة النفس. في هذا العصر يعيش الإنسان مشتت الانتباه حيث توجد الآف الواجبات والأشياء التي تتطلب تركيزنا خصوصا في وجود  الهاتف المحمول وشبكات التواصل الاجتماعي.

 

بمجرد شعورنا ببعض الملل، نقوم بفتح الهاتف والتصفح دون أي هدف. لماذا؟ راجع نفسك و تحكم في عاداتك.

 

قد اكون ايضا من المذنبين ولكن مشكلتي ليست هنا بشكل أساسي بما أنني تركت “الحياة الاجتماعية الرقمية” منذ أكثر من عشر سنوات وفقط مؤخراً بدأت باستخدام أكس لنشر الفائدة واستخدامه في حدود معقولة.

 

مشكلتي الأكبر تكمن في الانتاجية و محاولة استثمار وقتي في شي نافع بشكل مبالغ فيه. خصوصاً منذ اكتشافي البودكاست و الكتب المسموعة.

 

يجب علينا تخصيص وقت معين للملل! حاول المرة القادمة بأن تمشي في الطبيعة دون السماع للموسيقى أو بودكاست. اترك هاتفك في المنزل واجلس في الحديقة بالقرب منه. لا تركز على شي في العالم الخارجي و اسمح لعقلك بأخذك حيث لا تعلم

 

  1. جرب، جرب ثم جرب قبل أن تُكرس نفسك لأي شي.

 

  1. تعلم من غيرك و لا تمضي وحيداً في رحلتك نحو المجهول. 

 

  1. فشل خططنا ليس بالضرورة يعني فشلنا. حدث هذا لي اكثر من مرة وفي كل مرة أشعر فيها بالإحباط!

 

لاتقنط من رحمة الله ابداً فهو أعلم بما انفع لنا. توكل على الله و افعل ما عليك فعله وكل شي سيأتي تبعاً بمشيئته سبحانه. 

 

  1. التوتر والقلق ليسا عدوان في الأساس بل يمكن استغلالهما للتحسن والتطور إذا كانا في فترة محدودة من الزمن. 

 

في الحقيقة مستويات هرمون الكورتيزول و الناقلات العصبية كالابينفرين والنورابينفرين التي تزيد بسبب التوتر ستحسن من الذاكرة والأداء بصفة عامة. 

 

لماذا نتذكر طول حياتنا الأحداث المؤلمة التي تحدث لنا؟ يعتقد بأن ارتفاع الأدرينالين الكبير مسؤول عن هذه العملية! لماذا تزداد العضلات حجماً بعد رفع الاثقال؟ لاننا قمنا بوضع العضلة تحت ضغط و مع الوقت والتغذية السليمة ستتأقلم و تزداد حجماً.

 

هكذا تماماً يجب يكون منظورك للضغط النفسي حيث يتم صقلنا من خلال التجارب المختلفة الصعبة التي نخوضها ونخرج منها افضل قليلاً.

 

“النجاح ليس حادثًا…” 

أرجو أن تكون قد وجدت الفائدة من قصتي الشخصية وأمل بأن تكون مصدر إلهام لك لملاحقة احلامك. الحياة قصيرة فلا تُضعها في الانتظار والتفكير، تحرك، جرب ثم قرر.

 

اريد ان اختم بحكمة من  اللاعب الأسطوري بيليه: 

“النجاح ليس حادثًا. إنه عمل صعب، واستمرار، وتعلم، ودراسة، وتضحية، وقبل كل شيء، حب لما تفعله أو تتعلم أن تفعله.

 

1 فكرة عن “تعلم اللغة الألمانية : رؤى وتأملات طبيب”

  1. أستمعت بقرأة المقالة جداً وأعجبني تناسقها وتسلسل أحداثها رغم طولها نسبياً!
    أحسنت النشر ووفقك الله لما تسع أخي العزيز.
    تحياتي،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top